الثقافة مفهوم  ذاتي متجدد
                                             د . نصر عارف

 

    على الرغم من سيادة لفظ "ثقافة" كمرادف للفظ الإنجليزي "Culture"، إلا أن ذلك لا يمنع وجود اختلاف كبير في الدلالات الأصلية بين المفهومين، "الثقافة" في اللغة العربية من "ثقف" أي حذق وفهم وضبط ما يحويه وقام به، وكذلك تعني: فطن ذكي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، وتعني: تهذيب وتشذيب وتسوية من بعد اعوجاج، وفي القرآن: بمعنى أدركه وظفر به كما في قوله تعالى: " مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً" (الأحزاب:61).

 ومن خلال هذه الدلالات يمكن تحديد أبعاد المفهوم:

1 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ولا يُغرس فيها من الخارج. ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيمًا-تنعت بالثقافة- بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية.

2 - إن مفهوم "الثقافة" في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني، ولا يدخل فيه تلك المعارف التي تفسد وجود الإنسان، وبالتالي ليست أي قيم وإنما القيم الفاضلة. أي أن من يحمل قيمًا لا تنتمي لجذور ثقافته الحقيقية فهذه ليست بثقافة وإنما استعمار و تماهٍ في قيم الآخر.

3 - أنه يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقًا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم، ويبرز الاختلاف الواضح بين مفهوم الثقافة في اللغة العربية ومفهوم "Culture" في اللغة الإنجليزية، حيث يربط المفهوم العربي الإنسان بالنمط المجتمعي المعاش، وليس بأي مقياس آخر يقيس الثقافات قياسًا على ثقافة معينة مثل المفهوم الإنجليزي القائم على الغرس والنقل.

وبذلك فإنه في حين أن الثقافة في الفكر العربي تتأسس على الذات والفطرة والقيم الإيجابية، فإنها في الوقت ذاته تحترم خصوصية ثقافات المجتمعات، وقد أثبت الإسلام ذلك حين فتح المسلمون بلادًا مختلفة فنشروا القيم الإسلامية المتسقة مع الفطرة واحترموا القيم الاجتماعية الإيجابية.

4 - أنها عملية متجددة دائمًا لا تنتهي أبدًا، وبذلك تنفي تحصيل مجتمع ما العلوم التي تجعله على قمة السلم الثقافي؛ فكل المجتمعات إذا استوفت مجموعة من القيم الإيجابية التي تحترم الإنسان والمجتمع، فهي ذات ثقافة تستحق الحفاظ عليها أيَّا كانت درجة تطورها في السلم الاقتصادي فلا يجب النظر للمجتمعات الزراعية نظرة دونية، وأن تُحترم ثقافتها وعاداتها. إن الثقافة يجب أن تنظر نظرة أفقية تركيبية وليست نظرة رأسية اختزالية؛ تقدم وفق المعيار الاقتصادي -وحده- مجتمع على آخر أو تجعل مجتمع ما نتيجة لتطوره المادي على رأس سلم الحضارة.

وقد أدت علمنة مفهوم الثقافة بنقل مضمون والمحتوى الغربي وفصله عن الجذر العربي والقرآني إلى تفريغ مفهوم الثقافة من الدين وفك الارتباط بينهما.

وفي الاستخدام الحديث صار المثقف هو الشخص الذي يمتلك المعارف الحديثة ويطالع أدب وفكر وفلسفة الآخر، ولا يجذر فكره بالضرورة في عقيدته الإسلامية إن لم يكن العكس تمامًا.

ووضع المثقف كرمز "تنويري" بالفهم الغربي في مواجهة الفقيه، ففي حين ينظر للأخير بأنه يرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، ينظر للأول -المثقف- بأنه هو الذي ينظر للمستقبل و يتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة، وبذلك تم توظيف المفهوم كأداة لتكريس الفكر العلماني بمفاهيم تبدوا إيجابية، ونعت الفكر الديني -ضمنًا- بالعكس.

وهو ما نراه واضحًا في استخدام كلمة الثقافة الشائع في المجال الفكري والأدبي في بلادنا العربية والإسلامية؛ وهو ما يتوافق مع نظرة علم الاجتماع وعلم الاجتماع الديني وعلم الأنثروبولوجيا إلى الدين باعتباره صناعة إنسانية وليس وحيا منزلاً، وأنه مع التطور الإنساني والتنوير سيتم تجاوز الدين..والخرافة!!

أما في المنظور الإسلامي فمثقف الأمة هو المُلمُّ بأصولها وتراثها. وعبر التاريخ حمل لواء الثقافة فقهاء الأمة وكان مثقفوها فقهاء.. وهو ما يستلزم تحرير المفهوم مما تم تلبيسه به من منظور يمكن فيه معاداة الدين أو على أقل تقدير النظر إليه بتوجس كي تعود الثقافة في الاستخدام قرينة التنوير الإسلامي الحقيقي، وليس تنوير الغرب المعادي للإله، والذي أعلن على لسان نيتشه موت الإله فأدى فيما بعد الحداثة إلى موت المطلق و تشيؤ الإنسان.

والله أعلم.

اتجاهات ترجمة المفهوم للعربية:

مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية انتقل مفهوم "Culture" إلى القاموس العربي واتخذت الترجمة اتجاهين:

أ - اتجاه ترجمة مفهوم "Culture" إلى اللفظ العربي "ثقافة":

فكان سلامة موسى -في مصر-أول من أفشى لفظ ثقافة مقابل "Culture"- وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمور الذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلَّمها الناس ويتثقفون بها، وميَّز بين الثقافة "Culture" المتعلقة بالأمور الذهنية والحضارة "Civilization" التي تتعلق بالأمور المادية.

ولقد عرفت اللفظة العربية بنفس المضمون الأوروبي للمفهوم، مما شجع الدعوة إلى النقل والإحلال للقيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية انطلاقًا من مسلمات الانتشار الثقافي و المثاقفة.

ب - اتجاه ترجمة "Culture" إلى اللفظ العربي "حضارة":

وهو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع و الأنثروبولوجيا العرب في ترجماتهم للمؤلفات الأوروبية في هذين الحقلين، وفي المقابل ترجموا لفظ "Civilization" باللفظ العربي "مدنية"

 

 الثقافة في الفكر الغربي

 

   اللفظة العربية "ثقافة" هي الترجمة السائدة للكلمة الإنجليزية "Culture"، وتعود جذور الكلمة الإنجليزية إلى اللفظ اللاتيني "Culture" ويعني حرث الأرض وزراعتها، وقد ظلت اللفظة مقترنة بهذا المعنى طوال العصرين اليوناني والروماني. وفي فترة لاحقة، استخدمها المفكر اليوناني "شيشرون" مجازًا بالدلالات نفسها، حين أطلق على الفلسفة "Mentis Culture" أي زراعة العقل وتنميته، مؤكدًا أن دور الفلسفة هو تنشئة الناس على تكريم الآلهة.

وفي عام 1871م، قدم إدوارد تيلور تعريفًا لهذا المفهوم في كتابه "Primitive culture"، حيث اعتبره "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوًا في مجتمع".

وبانتقال مفهوم "Culture" إلى "Kultur" الألماني اكتسبت الكلمة مضمونًا جماعيًا، فقد أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة عامة. بناءً على ذلك، عالج المفكرون الألمان العلاقة بين علوم الـ "Culture" والعلوم الطبيعية.

من ناحية أخرى اتجه المفكرون الإنجليز إلى النظر في التطبيقات العملية لمفهوم Culture في المسائل السياسية والدينية، لذلك عرّفها كلايد كلوكهون بأنها: مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن في الميراث الاجتماعي التي يحصل عليها الفرد من مجموعته التي يعيش فيها.

الانتشار الثقافي..وهْم استعماري:

وقد تشعب المفهوم وأصبح جزءًا من العلوم الاجتماعية وخاصة علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والذي عليه تقوم افتراضات النظريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حول تاريخ المجتمعات وتطورها وصورها السابقة والقوانين التي تحكمها، ويتخذ علم الأنثروبولوجيا مفهومي (Culture - Civilization) جوهرًا أساسيًا لمقولاته ونظرياته.

وينطلق علم الأنثروبولوجيا من ثلاث قواعد أساسية تنبع منها نظريات علمائه، وهذه القواعد هي:
1 - المجتمعات تسير في نسق تطوري في نمط متصاعد؛ انطلاقًا من الحالة البدائية الأولى التي وجد عليها الإنسان في مرحلة ما بعد انفصاله عن عالم الحيوان إلى المرحلة الراقية التي وصل إليها المجتمع الأوروبي المعاصر، والذي يقع على قمة السلم التدريجي، ويتم تقسيم المجتمعات طبقًا لمعايير نابعة من الـ "
Culture". ولذلك ظهرت مفاهيم مثل: التحديث، واللحاق بالركب.

2 - الـ "Culture" تنشأ في مجتمع معين ثم تنتشر في المجتمعات الأخرى، فيما يطلق عليه "الانتشار الثقافي"، أي انتقال الثقافة من المجتمع الأكثر رقيًا إلى المجتمعات الأدنى أو الأقل تطورًا، وتحت هذا المعنى برزت مفاهيم مثل: مسألة الرجل الأبيض والثورات الثقافية.

3 - "Acculturation" أي التثاقف أو المثاقفة، ويقصد بها تأثر الثقافات بعضها ببعض نتيجة الاتصال بينها، أيَّا كانت طبيعة هذا الاتصال أو مدته، ولقد عرّف "مليفن هرسكوفيتز" التثاقف بأنه: التغيير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر، مما يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى الجماعتين أو فيهما معًا. وغالبًا ارتبط هذا المفهوم بالدور الاستعماري للغزاة الأوروبيين في إفريقيا.
ويعتبر التطور في مفهوم "
Culture" نتيجة منطقية للجذر اللاتيني له، حيث يعبر عن طبيعة الإنسان الأوروبي ودوره في العصور الحديثة تجاه المجتمعات غير الأوروبية، فطبيعة الإنسان الأوروبي أنه صاحب حضارة زراعية يستمد منها رموزه الفكرية، ومن ثم فليس غريبًا إذا ما تعاظم إنتاج الفكر وبدأ غرس القيم الجديدة وحصد ثمار النهضة أن يطلق الإنسان الأوروبي لفظ "Culture" على هذه العملية.

وأما عن دوره تجاه المجتمعات الأخرى فهو مفهوم يعبر عن عملية زرع القيم والأخلاق والمؤسسات الأوروبية في المجتمعات الأخرى تمهيدًا لحصاد هذه المجتمعات سواء عقول مبدعة تهاجر إلى المجتمع الأوربي أو موارد اقتصادية تغذي عجلة اقتصاده

 االثقافة والتراث

    إذا كان لكل أمة تراث تعتز به وترجع إليه ، فإن تراث أمتنا العربية عميق الجذور ، فهو يرتبط في منبعه بالأصالة وفي امتداده بالرواية ، وهو بذلك من أهم مصادر ثقافتنا .

    ويشكل المد الثقافي عندنا أهمية بارزة في الهوّية العربية بحكم أنها تستمد جذورها عبر قرون طويلة من تاريخ الأمة العربية مما يدفعها للمحافظة على جذورها الممتدة في أعماق تاريخها المرتبطة بمفرداتها وعناصرها المتجذرة في أصولها ، المواكبة لمكانتها بين الأمم التي تستلهم ماضيها المشرق ولا تنسى حاضرها المؤسف ، وتتطلع إلى مستقبل أفضل من الحاضر ، يواكب طموحات الأجيال المتطلعة إلى حياة أفضل ومجال أرحب في مجال ثقافة أوسع على مستوى التقدم الباهر في هذا العصر .

    ولا يعني الاهتمام بمسايرة العصر أن ندير ظهورنا لماضينا العلمي والفكري ونلهث وراء كل جديد معاصر ، ولو أنه لا يحقق لنا نتيجة ولا يضيف إلى ثقافتنا ما يفيد ، فليس المهم الركض خلف كل مستحدث لحداثته ، حتى لو لم يكن وراءه جدوى ، وإنما الأهم الأخذ من القديم أو الحديث بقدر ما يضيف إلى رصيدنا الفكري ما يدعمه ، وإلى مجالنا العلمي ما يعزره .

    ومن الملاحظ في مسارنا العصري أننا نجد متابعة تقليدية لكل ما يصدر عن الأجنبي ، ولو كان لا يلتقي مع توجهاتنا ولا يزيد رصيدنا ، وأبرز هذه المتابعات ما نلمسه في التحولات الفكرية والمسارات الثقافية ، وقد تنطوي تلك التحولات على شطحات ، ربما امتدت إلى ماله مساس بثوابتنا وجور على قيمنا ، والسبب في ذلك يكمن في ازدراء بعضنا لتراثنا وتجاهل أصولنا وموروثاتنا ، والتطلع إلى ما لدى الغرب، ولو كان من مخلفات الماضي السحيق مما يرجع إلى تراث اليونان والرومان ، فما نقل إلينا من مواريث تلك الأمم البائدة فهو المستحسن في نظر المبهورين منا بما يصدره الغرب إلينا مما يعده من مقومات تراثه ، وما يتصل بتراثنا فإنه لا يستثير نخوتنا العربية للاهتمام به والتعرف عليه، وذلك يتمثل في الانقياد غير المبرر لكل ما يصدر عن الأمم الغربية ، حتى لو كان مخالفـًا لمفاهيمنا ومختلفـًا مع أصالة تراثنا ، على الرغم من توافر الإبداع فيما خلفه أسلافنا من فنون القول ومجالات العلوم والآداب.

    إلا أن بعض المنظّرين من المفكرين العرب المحدثين نسي مآثر الأسلاف في حماسة التلقي عما يصـدر عن الغرب ، ومن أولئك المنظرين من أنكر أن يكون في أدبنا روايات طويلة أو قصص قصيرة ، وأن هذا اللون من الآداب لم يكن له أي ظلال في تراثنا ، ولم تعرف آدابنا إلا ما أخذناه من أدباء غربيين ابتكروا هذا الإنتاج وأبدعوا فيه، ومرد هذا التصور إلى الزهد في الاطلاع على المراجع التراثية في ثقافتنا، ولو أن الذين قالوا بتجريد تراثنا من جميع الفنون المستحدثة التفتوا إلى هذا التراث - كما التفت الغربيون إلى تراث من قبلهم - ومنحوه بعض اهتمامهم لوجدوا أن أسلافنا قد سبقوا الغربيين إلى التنويع في العطاء الأدبي ، فابتكروا في مجال الرواية والقصة ووضعوا الإرهاصات لهذا الفن الأدبي ، حيث ملامح هذا الفن الروائي لدى أبي العلاء المعري في (رسالة الغفران) التي تأثر بها دانتي في روايته التي تماثل (رسالة الغفران) والتي سماها (الجحيم).. كما نجد الملمح الآخر في رواية "روبنسن كروز " الذي ذكر كثيرون من كبار الكتاب أنها مقتبسة من " حي بن يقظان " لابن طفيل .. وتبدو ملامح القصة واضحة في مقامات بديع الزمان الهمداني ومقامات الحريري ، وإن جاء منحاهما لتأصيل اللغة العربية وإثراء مفرداتها ، فقد جاء على منوال الحكاية التي تمثل إرهاصـًا لبناء القصة وتأصيلها في بداية تكوينها الفني .

    ومن قبل ذلك حفل الشعر العربي منذ استهلاله في العصر الجاهلي ـ وعلى امتداد العصور التالية له ـ بملامح هذا اللون القصصي ، فلماذا نتنكر لماضينا ، ونتجاهل تلك الملامح ؟ !! فإنها مهما كانت خافتة في البداية فهي تمثل بوادر مبكرة في عالم الرواية والقصة - ؟!


    فهل من مقتضى الانبهار بالطفرة الحضارية هو أن يهون تراثنا علينا الذي انصرفنا عنه تحت وطأة التهوين منه والتهويل لتراث الآخرين ؟!

    وذلك ما دعا إلى وضع حاجز نفسي بيننا وبين رؤيتنا الواقعية لتراثنا الثقافي ، وإذا كانت هذه نظرة بعضنا إلى هذا التراث في ظل الانبهار بتراث الآخرين ، فقد استطاع صوت أسلافنا أن يعبر القرون ، وأن يحمله الأثير المتجدد إلى العالم في شكل عطاء علمي وثقافي ، وقد كان ذلك التراث بمثابة غذاء فكري وعطاء تنويري .

    وإذا كان من المفيد أن ننفتح على الثقافات الأخرى جميعها على مختلف أنواعها على أساس أن المعرفة العلمية والثقافة بمفهومها العام قاسم مشترك للبشرية يستفيد منها الجميع ، فإننا نجد الغربيين قد استفادوا من إنتاج علمائنا ومفكرينا ، فدرسوا مؤلفاتهم في بدايات النهضة المعاصرة واقتبسوا كثيرًا من الأفكار والدراسات، ونحن على هذا المنوال نسترد الدين فيما نأخذ عنهم دون إخلال بنسق الحياة عندنا، ودون أن يحجب ذلك رؤيتنا الصادقة لمآثر أسلافنا وأمجاد ماضينا .

    ولو استطاع العرب أن يتجاوزوا ضعفهم ويتخلوا عن التفرق بينهم الذي يكرس هوانهم ، وأن يغيروا الصورة الهامشية التي رسمها الغرب لهم والتي يعيشونها في حاضرهم ، لكان بإمكانهم تجديد حيويتهم واستنهاض هممهم و استنفار طاقاتهم ، وبهذا التوجه الحيوي ينتظمون في ركب التقدم الذي تخلفوا عنه مسافات طويلة تقدمتهم مجموعات من الأمم المعاصرة بملايين الأميال ، وهم شبه نائمين استطابوا الكسل فقنعوا من الحياة بالعيش على هامشها ، واكتفوا من التقدم باستغلال وسائله دون المشاركة في العمل والإنتاج .


وواقع الحال هذا مخالف للدين الذي يأمرهم بالعمل ويدعوهم إلى اليقظة ويحفزهم للتقدم ، كما أن ذلك مضاد لنهج التراث الذي ورثوه عن أسلافنا السابقين الذين كانت لهم مناراتهم العلمية وحضارتهم الإسلامية .

    وقد مضت تلك العصور الزاهية بما حققته من معرفة وما تركته من مآثر عليمة وآثار فكرية كانت محل اهتمام الأمم الغربية وموضع الاستفادة منها في نهضتها الحاضرة ، فقد جرى تدريس عدة كتب عربية في مدارس الغربيين بعد أن تُرجمت إلى لغاتهم ؛ لأنها تشتمل على علوم مهمة وثروة معرفية كانوا يفتقرون إليها في بداية نهضتهم ، وقد أصبحت تلك المؤلفات ركيزة لمنطلق الحضارة في بدايتها المبكرة ، فكانت أسماء بعض علمائنا معروفة لدى الغرب أكثر مما هي معروفة لدى بعض المنتسبين إلى الأمة العربية المزدرين لكل ما ينتسب إلى أسلافنا من علم وفكر ، وكأن قد كُتب على الأمة العربية الإسلامية في حاضرها أن تتجرد من ماضيها ، وهذه النظرة الجاحدة تعتبر وصمة عقوق من أبنائها المنتمين إليها بالنسبة المخالفين لها في الروح .

    وذلك المخاض التاريخي الذي تولدت عنه نهضة معرفية عربية مما يؤكد أن تراثنا لا يقل عن أي تراث حضاري إذا وجد له سياج من أبنائه يحميه من الضياع ويصونه عن الابتذال ، فلا يليق بنا أن نظل في موقفنا الحائر نقرع باب العصر فلا يؤذن لنا بالدخول في معتركه ؛ لأننا أمة فرطت في ماضيها ولم تصنع حاضرها ، وبذلك فقدت وجودها في عصر يموج بالحركة السريعة ويزخر بالإنجازات الرائعة والقفزات الباهرة ، ولن نلحق بركب التطور إلا إذا عادت الأمة إلى رشدها فاستلهمت ماضيها العلمي وجددت تاريهخا الحضاري وتحولت إلى واقع جديد في التطلع إلى الأمام والمساهمة في دورة العصر ، فإنها بذلك تستطيع أن تُثبت وجودها وحيويتها وتحتفظ بمكانتها مع بقائها مستمسكة بهويتها .

    والمجتمعات الغربية ـ مع تطورها السريع وإنجازها المتطور وتفوقها غير المحدود فإنها – على اختلاف لغاتها وتعدد شعوبها وتنوع اتجاهاتها – ما زالت تحافظ على التراث الذي ورثته عن حضارات سابقة بقيت لها شواهد مماثلة في المتاحف ومعالم بارزة في السياحة ، كما أنها ظلت محل الاهتمام الجماعي ممثلة في إصدارات حديثة وإخراج جديدة .

    ويمكن لثقافتنا أن تتعايش مع الثقافات المعاصرة متى التفتنا إليها من خلال رؤية موضوعية ، فنأخذ ما يضيف إلى ثقافتنا ولا يجرح هويتنا ، مطلوب من الأمة أن تحافظ على عقيدتها من أن تذوب ففي أي تيار وتلتزم بقيمها من أن تبتذل اتباعـًا لأي تقليد ، وأن تحرص على إيقاظ ماضيها العلمي المتألق وتعمل على تجديد سجلها الحضاري والاندماج في العصر دون الوقوف على عتبة التاريخ أو الاكتفاء بالانزواء في عباءة الماضي ، ولن يرجع المجد الذي اندرس أو يعود الإشراق الذي أفل إلا بالتجاوب مع حركة العصر إلى جانب التمسك بالجذور ، فعلينا أن نرسم لنا هدفـًا نصل إليه ونشق طريقـًا يقودنا إلى المجد ، ونصنع واقعـًا يعلو بنا إلى واقع الأمم الراقية ، ويضعنا على مستوى الشعوب المتفوقة .